ضمن قسم «أسيد» (جمعية السينما المستقلة) في دورة عام 2025 في مهرجان كان السينمائي، حظي الفيلم المصري الوثائقي الطويل «الحياة بعد سهام» بعرضه العالمي الأول. الفيلم الذي أخرجه نمير عبد المسيح هو الثاني له بعد توقف دام لسنوات، وطال انتظاره أساسًا لمدى قوة مخرجه في صنع فيلمه الأول، والذي يأتي ذلك الفيلم مكملًا له، راسمًا صورة كاملة لوالد ووالدة نمير أو لنقل أسرته بأكملها.
عودة الابن البار في السنوات الأخيرة الماضية، ظهرت موجة كبيرة من الأفلام العربية الوثائقية الإبداعية الذاتية المتحدثة عن أهالي المخرجين سواء آبائهم أو أمهاتهم، ومن بين تلك الأفلام «النسور الصغيرة» لمحمد رشاد، «يا عمري» لهادي زكاك، «إمبراطور النمسا» لسليم مراد، وأحدثها «أبو زعبل 89» لبسام مرتضى. بشكل ما، فإن تلك الحكايات الذاتية، رغم أنها تحكي دواخل أسر وعائلات ربما لم تعتد السينما المصرية أو العربية حكيها بتلك الطريقة، إلا إنها أيضًا قد حكت عن واقع لقطاعات كبيرة من البشر، وطرحت العديد من الأسئلة الأكبر من نطاق الأسرة والعائلة.
كان لذلك جانب آخر، هو اعتياد ظهور مثل تلك الحكايات وتشابهها في بعض الحالات، ما خلق حالة من التشبع لذلك النوع من القصص الشخصية والذاتية، وجاء ذلك ثمنًا لحالة الديمقراطية الحكائية التي انتشرت مع سهولة الحصول على كاميرات ديجيتال رخيصة وخفيفة وذات جودة معقولة. لكن في الفيلم العربي الأحدث من تلك النوعية «الحياة بعد سهام - LA VIE APRÈS SIHAM»، يثبت نمير عبد المسيح، مخرج «العذراء والأقباط وأنا» أنه لا يزال يمكنك أن تحكي حكاية شخصية ذات أبعاد أكبر، والأهم ذات أسلوب سينمائي خالص، مشابه في تأثيره لأفلام السينما الروائية.
إيه العمل في الوقت ده يا صديق؟ في فيلمه الوثائقي الطويل الثاني «الحياة بعد سهام»، يتتبع عبد المسيح أيضًا عائلته. يبدأ الفيلم بعد موت أمه سهام بطلة فيلمه الوثائقي الطويل الأول، ويركز في فيلمه الثاني على والده، المتحفظ غير المعبر عن مشاعره. لنمير حكاية يعيد سردها في كلا الفيلمين، أن أمه قد اضطرت لتركه في مصر والسفر إلى فرنسا وهو ابن أربعين يومًا، وتركته حتى أتم سنتين. فراق ربما لا يزال مؤثرًا في تكوينه وشخصيته حتى الآن، يدفعه إلى توثيق علاقته مع عائلته على الشاشة كنوع من الرغبة في عدم تكرار هذا الفراق حتى بعد موت الشخصيات.
منطلق نمير مشابه لمن يأخذ صورة للذكرى، لكنه ينقل الأمر إلى المستوى الأكبر، يحتفظ بتلك المواد ليحكي بها أفلامًا، يعيد وضع أمه في الفيلم بعد رحيلها، في تمثيل بصري بديع لمن يتخيل وجود أمه بعد فراقها. يلعب بالمشاهد الحالية والماضية، فيخلق عالمًا سينمائيًا لا فراق فيه. يخلق ذلك حالة من الدفء والحميمية عند المشاهد، لكن عبد المسيح، المتمهل في صنع أفلامه، يبني عالمًا سينمائيًا بحق.
نقطتان أساسيتان تصنعان تميز فيلم نمير، أولهما، مدى قدر الفكاهة في حكي لحظاته مع والده ووالدته وأقاربه في البلدة الصغيرة في صعيد مصر. نراه يتلاعب بمؤثرات صوتية أو حتى بشكل بصري ليخلق مشهدًا، يعلم ونعلم نحن أيضًا مدى ثقله في الحقيقة، غاية في الخفة والرقة، وكأن العالم كله أصبح مجرد فيلم، نشاهده ونتعامل معه بشكل مؤقت من وراء شاشة.
تحية إلى رائد الذاتية في السينما العربية النقطة الثانية المميزة للفيلم والتي تجعل منه فيلمًا «ذاتيًا» مختلفًا، هي استخدام مشاهد من السينما المصرية في قلب الفيلم. يخبره والده بأنه يحلم أن يطمئن عليه بأن يعمل الأول في السينما «الحقيقية» ويقصد الأفلام الروائية. من تلك النقطة، يستخدم نمير مشاهد من أفلام سينمائية مصرية مختلفة، بينها «فجر يوم جديد» و«عودة الابن الضال»، ويحكي بها قصة والده ووالدته في السبعينيات، مازجًا صوت العائلة مع مشاهد الممثلين. مزج هو مثالي من عدة نواحٍ: أولًا، هو تشابه قصة زواج وسفر والده ووالدته بالأفلام الروائية في الفيلم، وتحية إلى سينما شاهين الذاتية حد النخاع، وأخيرًا فإن ذلك الاختيار يجعل من الفيلم أكثر فكاهة وتسلية خاصة لجمهور ربما لا يحبذ ذلك النوع من السينما.
في القاعة وبعد نهاية الفيلم، أعتقد أنه قد سرت قشعريرة طيبة في قلوب كل المشاهدين، بينما تنزل التترات، مذكرة كل واحد في القاعة بعائلته وبعلاقته بهم، إنه واحد من تلك الأفلام التي تجعل الحياة بعدها أخف، وتهوِّن على صانعها وعلينا كل فراق لم نستطع التصالح معه.